جولة فى تاريخ البشريه (١٦)…


جولة فى تاريخ البشريه (١٦)

عندما تدخل متحف التاريخ الطبيعى (Natural-History Museum) فى لندن، أول ما تراه فى صدر البهو الرئيسى تمثال لتشارلز داروين. لا حاجة للتعريف بداروين فهو من أشهر العلماء قاطبة، ولا ينكر مكانته إلا الغيبويين والدراويش. لم يكن داروين ملحداً ولا معادياً للدين، لكن عقله المستنير وأمانته الفكرية أخذاه إلى حيث كانت الحقيقة التى لا مفر منها، وهي أن الأنواع تطورت تحت تأثير البيئة و ضغوط التنافس فى سبيل البقاء. كان هذا الإستنتاج يناقض التراث الدينى الذى نَصّ على أن جميع الكائنات خُلقت فى يوم واحد بنفس الشكل الذى هم عليه الآن. ولم يكن نقض المعتقدات الدينية مقصد داروين، بل ضايقه كثيراً، (لا سيما وأن زوجته كانت مبتلاة بالهوس الديني، ناهيك عن المجتمع كله فى ذلك الزمان.) لكن العلمَ علمٌ ولا ينقضه سوى علم مثله، ولم يظهر حتى الآن علم ينقض نظرية التطور (*). بالعكس، عندما جاءت علوم البيولوجيا الحديثة، وأصبح تحليل الجينوم والبروتيوم ممكناً، أثبتت تلك التقنيات بلا شك صحة إستنتاجات داروين (**).

لا يمكننا المبالغة فى تقدير فضل داروين، فمهما حاولنا لن نوفيه حقه. لكن إسحق نيوتن كان هو العمود الآخر الذى إرتكزت عليه النهضة العلميه: بعد جاليليو كان دوران الأرض والكواكب حول الشمس قد أصبح أمراً مسلماً به، لكن لم يكن مفهوماً ما الذى يحدد مسارات الكواكب، وكان نيوتن هو الذى شرح توازن الجاذبية والقوة الطاردة المركزية وصاغ قوانين الحركة التى تنبأت بمسارات الكواكب بدقة، وشكلت أساس علم الميكانيكا والفيزياء الكلاسيكيه. تزامن مع هذا تطور الرياضيات اللازمة لصياغة تلك القوانين، فأرسى نيوتن أسس حساب التفاضل والتكامل، ثم طوّره لايبنيتس (Leibniz) فى ألمانيا إلى الصورة التى نعرفها اليوم. مثله مثل داروين، لم يكن نيوتن ملحداً، ولا هو بدأ من منطلق التشكك فى صحة الكتب السماوية، وإنما تبع العلم بأمانة إلى حيث أخذه. وتدين له البشرية لأنه لم يدع معتقداته الموروثة تكبّل فكره وتمنعه من متابعة الحقيقة أينما كانت.

كان ترويض الطاقة الميكانيكية، كما ذكرنا فى الحلقة السابقة (١٥)، هو الدَفعة التى أخرجت المجتمع من عصور الظلام وأدخلته فى الدورة الحميدة التى تغذت فيها العلوم والصناعات واحدة على الأخرى. وكانت الدَفعة التالية هي ترويض الطاقة الكهربائية. لم يخترع أحد الكهرباء أو المغناطيسية، فهما موجودتان فى الطبيعه (***)، لكن الفضل يعود إلى العلم فى ترويضهما لإنتاج الطاقة وجعل الإتصال عن بُعد ممكناً (التلغراف ثم التليفون ثم الراديو). أهم من ساهموا فى تطوير علوم الكهرباء والمغناطيسية هم فاراداي (Faraday) وماكسويل (Maxwell) من بريطانيا، وهرتز (Herz) وأوم (Ohm) وكيرخهوف (Kirchhoff) وهلمهولتز (Helmholtz) من ألمانيا وأمپير (Ampere) ولاپلاس (Laplace) وفورييه (Fourier) من فرنسا، وڤولتا (Volta) وجالڤانى (Galvani) من إيطاليا، وتسلا (Tesla) من صربيا. هذا فى مجال البحث العلمى. أما فى مجال التصنيع والتسويق فالفضل يعود للأمريكيين إديسون (Edison) وماركونى (Marconi).

إكتشف فاراداي أن الكهرباء والمغناطيسية هما تجليان لظاهرة واحدة، فالكهرباء تنتج حولها مجالاً مغناطيسيا، والمجال المغناطيسي بدوره يولد كهرباء فى أي موصّل يمر خلاله. وسرعان ما تمكن العلماء والمهندسون من إبتكار ماكينات تحول الحركة الميكانيكية إلى طاقة كهربائية(مولدات)، وماكينات أخرى تحول الطاقة الكهربائية إلى طاقة ميكانيكية (موتورات). كان أول تطبيق لهذه الإكتشافات هو إدخال النور (حرفياً) إلى البيوت والشوارع. قبل النور الكهربائى كانت إنتاجية الناس محدودة بعدد ساعات ضوء النهار، وكان دخول الإنارة الكهربائية مكافئاً لإطالة النهار عدة ساعات، وتبع ذلك إرتفاع الإنتاجية ناهيك عن زيادة الزمن المتاح للقرآءة والكتابة، وبالتالى إرتفاع مستوى التعليم والثقافه.

درس ماكسويل الكهرباء والمغناطيسية رياضياً، وأظهر تحليله أنهما يكونان مجالاً واحداً هو المجال الكهرومغناطيسى، وأن هذا المجال ينتشر فى الفراغ كما ينتشر الضوء على هيئة موجات (*4). والباقى، كما يقولون، تاريخ معروف – أثبت هرتز عملياً صحة معادلات ماكسويل وإمكانية الإتصال بدون أسلاك، ، ونجح ماركونى فى تصنيع وتسويق جهاز الراديو الذى نعرفه. وبعد ذلك جاء الرادار ثم التليفزيون ثم التليفون اللاسلكى، وكلها أجهزة راديو مخصصة لوظائف مختلفه.

لم يكن رجال الدين سعداء بأي من تلك التطورات، لكنهم أدركوا أن أخطرها على مهنتهم هي نظرية داروين، فإنبروا لمهاجمتها بشراسة فاقت شراسة محاكم التفتيش. قالوا لبسطاء العقول إن داروين يدّعى أن أجدادكم كانوا قروداً، وحدثت فى العشرينات من القرن الماضى محاكمة مشهورة فى أمريكا (Scopes trial) سمتها الصحافة ‘قضية القرود’، وكان “الجانى” فى القضية مدرس ثانوى درّس لتلاميذه نظرية داروين. حشدت المؤسسة الدينية لهذه القضية أقوى أسلحتها من وعاظ وسياسيين كاريزماتيين متمرسين فى فن إثارة عواطف العامه (*5). وإنحاز للمدرس أساتذة الجامعات والعلماء. كسب رجال الدين تلك المعركة (*6)، لكنهم فى النهاية خسروا الحرب، وأصبحت نظرية التطور هي حجر الأساس فى علوم البيولوجيا الحديثة.
______________________________

*) ساهمت كلمة ‘نظريه (theory)’ ذاتها فى تعقيد الموضوع. فالكلمة فى معظم اللغات لها معنيان متناقضان – أولهما ‘الإطار العلمى لظاهرة نشاهدها’؛ والثانى هو ‘تخمين غير مبنى على دليل أو برهان’. وهذا المعنى الثانى هو الذى يرسخه رجال الدين فى عقول البسطاء.
**) المادة الوراثية(DNA) فيها علامات (markers) نستطيع منها أن نعرف متى تفرع نوع من نوع آخر.
***) القلب يستعمل الكهرباء لضبط حركته؛ والأعصاب تستعمل الكهرباء لإرسال وإستقبال الإشارات؛ البرق والرعد ظواهر كهربائيه، وهكذا. ويستعمل كثير من الكائنات المجال المغناطيسى لتحديد الإتجاه.
*4) عرفنا فيما بعد أن الضوء هو أيضاً موجات كهرومغناطيسية عالية التردد.
*5) المحاكمات فى أمريكا تجرى على نظام المحلفين، (وهم ١٢ شخص من عامة الشعب.) والمحامى الأكثر قدرة على بلف (bluff) المحلفين يكسب القضيه.
*6) أدان المحلفون المدرس، وحكم القاضى بتغريمه ١٠٠ دولار، لكن النقض ألغى الحكم إستناداً إلى بعض الشكليات.

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

Exit mobile version