توعية وتثقيف

جولة فى تاريخ البشريه (١٥)…


جولة فى تاريخ البشريه (١٥)

كنا نقضى أجازة فى جنوب أسبانيا عندما تعرفنا على أسرة إنجليزية من يوركشير وذهبنا معاً إلى العشاء. حكى لنا الرجل كيف قضى شبابه زاحفاً على بطنه تحت الأرض ينحت الصخور لإستخراج الفحم. فعل ذلك لمدة ٢٥ سنة قبل أن يترقى ليعمل فوق الأرض فى الإدارة. كانت قصته مؤلمة، لكن ذلك الفحم كان هو الوقود الذى غذى الثورة الصناعية وجعل إنجلترا (وبناتها أمريكا وكندا وأستراليا ونيوزيلاندا) من أغنى وأرقى بلاد العالم.

فى النصف الثانى من القرن ١٨ إخترع چيمس وات (Watt) الآلة البخارية التى إستعملت الفحم لإنتاج طاقه ميكانيكيه دوّارة (rotary) (*). وسرعان ما ظهرت لذلك الإختراع تطبيقات غيّرت وجه العالم، مثل السكك الحديدية وماكينات الغزل والنسيج (**). إرتفع سعر الفحم وأصبح من الضروري زيادة نجاعة (efficiency) الآلة لتنتج شغلاً أكثر مع إستهلاك كمية أقل من الفحم. وإستدعى ذلك أبحاثاً علمية أنتجت النظرية الحركية للغازات (Kinetic Theory of Gases) وعلم الديناميكا الحرارية (Thermodynamics) التى أصبحت الأساس الذى بُنيت عليه علوم الهندسة الحديثة.

تعد الديناميكا الحرارية والنظرية الحركية للغازات من أهم التطورات العلمية على الإطلاق، ولهما تداعيات فلسفية عميقة فيما يتعلق بالمنظومات التى تحتوى على أعداد هائلة من المكوّنات، (كجزيئات الغاز مثلاً (***)). بيّنت النظرية الحركية أنك يمكن أن تتنبأ بتصرف المنظومة دون أن تعرف تصرف كل عضو فيها على حده. وهذه نتيجة ذات أهمية بالغة ليس فقط فى الفيزياء، بل أيضاً فى الإقتصاد والسياسة والإحصاء والعلوم الإجتماعية. وأنتجت الديناميكا الحرارية إثنين من أهم القوانين فى الطبيعه: ينص القانون الاول على أنك لا يمكن أن تحصل على شيئ ما من لاشيئ، (سواء كان هذا “الشيئ” مادة أو طاقه (*4))، وهذا قانون تأسيسي فى الفكر البشرى، نبعت منه قوانين أخرى كثيرة فى مختلف فروع العلم.

أدخل القانون الثانى مفهوم الإنتروپيا (entropy)، وهي كمية تعبر عن قابلية المنظومة للتردّى إلى العشوائية. تزداد إنتروپيا المنظومة إذا كان تركيبها يتيح لها فرصاً أكثر للتفكك والعشوائية ولتسرّب الطاقة من أماكن تركيزها لتنتشر فى كافة أنحاء المنظومة دون أداء شغل مفيد. أما إذا كان تركيب المنظومة محكماً ومستقراً، وتركزت الطاقة فيها فى مناطق بعينها ولم يكن لديها فرص كثيرة للإنتشار والتبدد، فإن إنتروپيا تلك المنظومة تكون أقل. هذا عن معنى الإنتروپيا، أما القانون فينص على أنها يستحيل أن تتناقص فى أية منظومة ‘مغلقه’. (كلمة ‘مغلقه’ هنا مفتاحيه، وتعنى غياب أية عوامل خارجيه.) أي أنه طالما لا تدخل المنظومة طاقة أو مادة من خارجها، فإن تلك المنظومة ستبقى على ما هي، أو تتردى إلى أي حالة عشوائية متاحة لها، لكنها يستحيل أن تصبح أكثر ترتيباً عن ما كانت.

يرجع الفضل فى تطوير علم الديناميكا الحرارية إلى العالم الإلمانى كلاوزيوس (Clausius) والعالم الفرنسى سادى كارنو (Sadi Carnot) (*5). وقد سميت على إسم كارنو الدورة التى تصف عمل الآلات الحرارية-الميكانيكية عامة (Carnot cycle). وساهم هذا فى تطوير آلة الإحتراق الداخلى (internal-combustion engine) التى تُستعمل فى السيارة والطائرة وغيرهما.

تفجر النشاط الصناعي فى بريطانيا مع توفر الطاقة الميكانيكية، وإنتشر من إنجلترا وسكوتلاندا إلى هولندا وألمانيا وفرنسا، ومن صناعة الغزل والنسيج إلى صناعات أخرى مثل النقل وإنتاج الكيماويات والفلزات وغيرها. وتطلبت هذه الصناعات أبحاثاً علمية لتطويرها، وأنتجت الأبحاث صناعات جديدة، وهكذا دخل شمال أوربا فى دورة حميده (virtuous cycle): العلم يخدم الصناعة، والصناعة تُمول العلم، والعلم ينتج مزيداً من الصناعة، وهكذا…. وساعدت الميكنة والكيماويات على رفع الإنتاجية الزراعية أيضاً، حتى أصبح أقل من ٥% من البشر الآن يشتغلون بالفلاحة وينتجون ما يكفى لإطعام البشرية. (كان هذا الرقم ٩٥% قبل النهضة العلميه).

كان الألمانى جوتنبرج قد إخترع مكبس الطباعة قبل ذلك بثلاثة قرون. ومع الميكنة تحول المكبس إلى ماكينة تنتج الكتب بالآلاف. وتشكلت الجمعية الملكية للعلوم فى بريطانيا، يتبادل فيها العلماء آراءهم وأعمالهم، وتدفقت الثروات من المستعمرات فى أمريكا وأفريقيا والهند. تكاتفت هذه العوامل على نمو العلم فى مختلف فروعه. فظهر إسحق نيوتن فى الفلسفة الطبيعية (أي الفيزياء)، وتشارلز داروين فى الأحياء، ولافوازييه ومندلييف فى الكيمياء. وسنتحدث عن هؤلاء ببعض التفصيل فيما بعد.

عندما نتأمل فى تاريخ تطور العلوم فى أوربا يمكننا التمييز بين مرحلتين – الأولى هي مرحلة إستكشاف التراث الكلاسيكى وإستيعابه. والثانية هي مرحلة بناء وتشكيل علوم حديثة تتجاوز ما وصل إليه القدماء. المرحلة الأولى كانت وجيزة، بدأت بكوپرنيكوس ثم چوردانو برونو وإنتهت بجاليليو. إستوعب هؤلاء أعمال القدماء مثل إقليدس وأرشميدس وبطليموس الإسكندرى، وكذلك علماء العصر الذهبى الإسلأمى، واستعملوا مناظير وآلات لم تكن متاحة لأولئك، وتوصلوا من أبحاثهم إلى موديل فلكى للكون مجمله أن الأرض والكواكب تدور حول الشمس وليس العكس(*6). أما المرحلة الثانية فبدأت بنيوتن وداروين وأقرانهم وما زالت مستمرة ختى الآن.

لكن المقال قد طال ونحن بالكاد خدشنا قشرة الموضوع. حتى فى هذه الجولة الخاطفة كان من المفيد التطرق إلى قوانين الديناميكا الحرارية، لأنها فى نظرى معلومات لازمة للمثقف العصري. على أي حال سنكتفى بهذا القدر الآن ونلتقط الخيوط فى المرة القادمه.
______________________________

*) كلمة ‘دوّاره’ (rotary) مهمه، لأن الآلة البخارية كانت موجودة قبل وات، لكنها كانت آله دافعة، صُممت خصيصاً لضخ المياه التى كانت تتراكم فى المناجم.
**) إخترع ماكينة الغزل چيمس هارجريڤس (Hargreaves) وسماها ‘الغزّاله چينى’ (Spinning Jennie). بعد ذلك تمكن ريتشارد آركرايت (Richard Arkwright) من ميكنة نول النسيج وأصبح من أغنى رجال الأعمال فى بريطانيا
***) يحتوى لتر واحد من غاز الهيدروجين (مثلاً) على ١٠ أس٢٢ من الجزيئات تقريباً. للمقارنه – عدد البشر فى العالم كله أقل من ١٠ أس١٠.
*4) ينتج من هذا إستحالة إختراع ماكينة حركة أزليه (perpetual-motion machine) بغض النظر عن ما تراه على الإنترنت.
*5) كان أبوه معجبا بالشاعر الفيلسوف الفارسى ‘سعدى’ فسمى الطفل على إسمه.
*6) دفع برونو حياته ثمناً لأمانته العلميه، فقد أحرقه رجال الدين حياً. وأوشك جاليليو أن يلاقى نفس المصير لولا أنه خضع لإرهاب محاكم التفتيش وتاب (أو تظاهر بالتوبة) عن هرطقته. لم تعتذر الكنيسة الكاثوليكية عن تلك الجرائم إلا مؤخراً (فى عهد البابا يوحنا-بولس ٢٣).

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

Farid Matta فريد متا

كاتب ادبي

‫8 تعليقات

  1. دكتور فريد
    هو الذكاء الخارق
    وبحر العلم والمعلومات الواسع وامنياتي ان ينهل ويستفيد شبابنا من هذا البحر الفياض
    ربنا يحميك ويرعاك اخي الحبيب الغالي فريد🌷🌹🌺

  2. البرشامة
    المرة دى دسمة. رغم أننى قرأت عن القانون الثانى للديناميكا الحرارية من قبل، اكتشفت الآن إننى نسيت ما قرأت
    و أرجو أن تلقى المزيد من التفاصيل و التوضيح
    انت جميل

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى