توعية وتثقيف

جولة فى تاريخ البشرية (٤)…


جولة فى تاريخ البشرية (٤)

إنبهر العبرانيون ببرج بابل فنسجوا حوله قصة أصبحت جزءاً من التراث البشري. ملخص القصة أن البابليين إنتابتهم الغطرسة فشرعوا فى بناء برج يوصلهم إلى السماء. لكن الله أفسد مشروعهم بجعلهم يتكلمون بلغات مختلفة، فأصبحوا غير قادرين على التعاون ومواصلة البناء. بصرف النظر عن واقعية هذه الأسطورة، فهي تُبرز نقطتين أساسيتين: الأولى هي أن الإنجازات البشرية العظيمة غير ممكنة بدون تعاون؛ والثانية هي أن التعاون غير ممكن بدون لغة مشتركه.

فى هذه “الجولة فى تاريخ البشرية” سنلقى نظرة سريعة على كل من هاتين النقطتين – التعاون أولاً ثم اللغة فى الحلقة القادمه (٥).

التعاون يضخم الإمكانية الفردية على نحو يفوق مجرد الإضافه. بمعنى أنه إذا كانت قدرة الفرد هي C، فقدرة ١٠ أفراد غير متعاونين هي 10C (فى أحسن الظروف)، أما قدرة ١٠ أفراد متعاونين فهي 10C مضروبة فى ما يمكن أن نسميه “المضاعف التعاونى”. ويعتمد حجم المضاعف على مدى التنسيق بين الأطراف. (على سبيل المثال – أن نقاتل العدو معاً أفضل من أن نقاتله منفصلين؛ وأن تدخل أنت إلى المعركة فى لحظة معينة ومن إتجاه معين أفضل من أن تدخلها عشوائياً.)

أعظم تجليات المضاعف التعاونى نجدها فى كائنات صغيرة مثل النمل والنحل والنمل الأبيض، وهي كائنات تعتمد على التعاون المنسق لتحقيق إنجازات مدهشه على الرغم من محدودية القدرة الفردية للغايه (*). والكائنات تتعاون ليس لأن التعاون شيئ جميل أو لأنه يرضى الآلهة، بل لأنه ميل غريزي ترسخ عندهم نتيجه للإنتقاء الطبيعى. معنى ذلك أن الأفراد الذين ظهرت فيهم هذه الخاصية كانت فرصتهم أفضل فى البقاء إلى أن ينجبوا جيلاً يرث عنهم هذه الخاصية، (وهذا موضوع شيق فى حد ذاته).

يتميز الإنسان عن غيره من الكائنات بتعدد المجالات التى يتعاون فيها، فهو يتعاون فى البناء والقتال ورعاية الأطفال وإستكشاف الطبيعة وترويضها (وحتى فى الولادة، وهي ظاهرة لا نظير لها فى الكائنات الأخرى.) (**). لكن غريزة التعاون عند الإنسان تتنافس مع غرائز أخرى مناقضة مثل الأنانية والطمع والرغبة فى الإستئثار. لذلك نجد الإنسان قابلاً للتعاون فى مشروع معين، مثل الدفاع عن الوطن، لكنه ينفر من إتخاذ التعاون كأسلوب حياة. وقد تركت لنا التجربة الإشتراكية السوڤييتة درساً مفيداً فى هذا الشأن: فهي قد حققت نجاحات تعاونية باهرة فى قهر النازية وغزو الفضاء، بينما فشلت فى تشغيل التعاونيات الزراعيه.

ولم يكن هذا أمراً جديداً. حتى الإغريق القدماء كانوا يزدرون المجتمعات التى تغالى فى إعلاء التعاون على المصلحة الذاتية، فكانوا يسمون هؤلاء ميرميدونات (myrmidons) وهي تسمية مشتقة من كلمة ‘نملة’.

الميزة الأخرى التى تعلى شأن البشر على سائر الكائنات هي الشق الثانى من أسطورة برج بابل، أي اللغه. إمتلاكنا للغة غنية مرنة قابلة للنمو والتكيف (***) لم يساعدنا فقط فى رفع قيمة المضاعف التعاونى، بل ساعد المجتمع البشرى على أن ينمو ويتطور بينما ظلت الكائنات الأخري تعيش كما كانت تعيش منذ مليون سنة، لايختلف جيل عن سابقه أو لاحقه (*4).
_________________

*) قابلت أستاذاً فى معهد كاليفورنيا للتكنولوچيا (Caltech) صمم أوتوماتوناً (automaton) صغيراً وبرمجه بعدد قليل من التعليمات البسيطه. ثم إستخدم “مجتمعاً” من هذه الأوتوماتونات فى تجربة أظهرت أنهم يستطيعون تكرار إنجازات مجتمع النمل المدهشة على الرغم من محدودية كل عضو. والسبب فى ذلك هو معامل التضاعف التعاونى.

**) الأنثى البشرية هي الوحيدة التى لا تستطيع أن تلد بمفردها، بل تحتاج إلى مساعدة. لن ندخل فى تفاصيل هذا الموضوع لأسباب مفهومة. سأذكر فقط أن الدوافع التطورية لزيادة حجم الدماغ لم يقابلها تغير مناسب فى تركيبة الجهاز التناسلى، مما جعل الولادة البشرية عملية مؤلمة وبالغة الصعوبة وتستلزم تدخل خارجى. وحتى مع المساعدة الخارجية كانت نسبة وفيات الأمهات أثناء الولادة تمزق القلوب. وإستمر ذلك آلاف السنين، وحتى منتصف القرن العشرين فى أماكن كثيرة.

***) تستخدم بعض الكائنات الأخرى لغات بدائية تتكون من عدد محدود من الإشارات الصوتية أو الكيميائية أو البصرية. لكنها غير قادرة على نقل أفكار مُعقده.

*4) من الطريف أن هناك ناس يعتقدون أن هذا شيئ عظيم ويجب تطبيقه فى المجتمع البشرى (السلفيون فى مصر والآمش (Amish) فى أمريكا واليهود الأرثودكس وغيرهم.).

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

Farid Matta فريد متا

كاتب ادبي

‫9 تعليقات

  1. العقلية “الفريدة” لا تتوقف عن البحث والربط بين الظواهر الإنسانية ومحاولة تفسير وفهم الكائنات الأكثر تعقيداً: الإنسان.
    دراسة قيّمة ولغة رصينة، كما عهدنا دائماً منك.

  2. جولة أكثر من رائعة. منك نستفيد ونتعلم دائماً صديقنا العزيز فريد.
    بالنسبة لاحتياج المرأة للمساعدة أثناء الولادة، فأحد الأسباب في ذلك أيضاً أننا كبشر ننتمي إلى الثدييات التي تمشي على الأربع ولذا تكون الولادة طبيعية ولا تعتمد على مساعدة الآخرين. ولكن مع النشوء والارتقاء أصبحنا نمشي على قدمين وفقدنا الاستقلال، ولكن تيقنا من ضرورة التعاون للحفاظ على حياتنا واستمرار الجنس البشري.
    في انتظار الجولة القادمة ولك مزيد الشكر والعرفان على هذا المجهود البحثي الثمين🙏🙏🙏

  3. يغيب عنا أحيانا أن أضخم إنجازاتنا قد لا تبدو بنفس الضخامة إذا قورنت بإنجازات الكائنات الأخرى: الهرم الأكبر، مثلاً، يبلغ إرتفاعه حوالى ١٠٠ ضعف قامة الإنسان. أما تل النمل الأبيض فيصل إرتفاعه إلى ٥٠٠٠ ضعف حجم النملة. صحيح أن الحجم ليس هو كل شيئ، ولا هو أهم شيئ. وربما هذا هو مربط الفرس.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى