جولة فى تاريخ البشرية (٢٠)…


جولة فى تاريخ البشرية (٢٠)

تحدثت فى هذه السلسلة عن تطور البشرية إقتصادياً وإجتماعياً وتكنولوجياً وعقائدياً. بعد ذلك تطرقت إلى تطور الفنون والأدب والعلوم. وفى كل حلقة ركزت على تقسيم التاريخ إلى مراحل متميزه تختلف الواحدة منها عن الأخريات. فى الحلقة الأولى أبرزت المراحل المختلفة للتطور الإقتصادى: مرحلة ‘الصيد وجمع الثمار’ ثم مرحلة ‘الزراعة والرعي’ ثم مرحلة ‘المِلْكية الإقطاعية’ … إلخ. وهكذا فى الحلقات التى تَلَت. وربما لاحظ القارئ أننى لم أذكر أبداً إسم ملك أو رئيس أو قائد أو زعيم فى أية من الحلقات التسع عشر السابقة، وذلك لسببين: الأقل أهمية هو أن هذه معلومات يسهل العثور عليها فى أماكن أخرى، والسبب الثانى والأهم هو أن هؤلاء لا يصنعون التاريخ بالمفهوم الذى ذكرته؛ بل هم يصنعون الأحداث، وهناك فارق جوهري هو موضوع هذه الحلقة.

التاريخ مليئ بالأحداث والمصادَفات، منها الصغير ومنها الكبير. فى معركة واترلو، مثلاً، وصل القائد الپروسي فون بلوخر (von Blücher) وجيشه إلى الميدان فى لحظة كان النصر فيها شبه مؤكد لناپليون. لكن وصول بلوخر فى تلك اللحظة كسر الجناح الأيمن للجيش الفرنسى، والبقية تاريخ معروف. لو كان الجيش الپروسى قد تأخر بضعة ساعات، لكان مصير أوربا والعالم غير ما هو الآن.

بالصدفة المحضة نزل ضباب كثيف على نيويورك بعدما أحكم الجيش البريطانى حصاره حول الثوار الأمريكيين. بفضل ذلك الضباب تمكن چورچ واشنجتون وقواته من الهروب ليلاً عبر النهر وتجنب الوقوع فى الأسر. لولا تلك الصدفة المحضة لما كانت هناك ولايات متحدة أمريكية ولكان مسار التاريخ فى العالم كله مختلفاً.

كل تلميذ عربي يعرف أن عاصفة رملية هوجاء هبت أثناء معركة اليرموك. الأكثر إطلاعاً يعرفون عن موت إمبراطور الفرس وتركه على العرش طفلاً عمره ١١ سنه؛ وعن وقوع هيراقليوس عظيم الروم فى غرام إبنة أخيه (المحرّمة عليه دينياً)، وعن الصراعات الداخلية الطاحنة التى إستنزفت الإمبراطوريتين فى تلك الحقبة نتيجة لتلك الأحداث. لو لم تحدث واحدة أو أكثر من هذه المصادفات فى نفس الوقت لما كانت مصر والعالم كما نراهم اليوم.

هل التاريخ إذاً مجرد سلسلة من الأحداث والمصادفات؟ نعم، إذا نظرنا إليه كسردية للوقائع وتفاعلاتها وتداعياتها. أما إذا نظرنا إليه كتحليل للحالة البشرية، وكتقييم للتغيرات الشاملة وطويلة المدى فى تركيبة الجتمع، فإن الصورة تختلف.

خذ، مثلاً، ظاهرة إنحسار الإقطاع وصعود رجال الأعمال والمهنيين – هل كان هذا التطور صدفه؟ الإجابة القاطعة : لا. هل كان سببه ملك أو زعيم؟ بالطبع لا! هذا التطور حدث فى كل مجتمع بشري بلغ درجة معينة من النضج والتطور، مهما إختلفت ثقافات تلك المجتمعات وتقاليدها ومعتقداتها. قد يتأخر عشرات أو مئات السنين فى بلد عن أخرى، لكنه يحدث لامحالة عندما يتحول أغلب إقتصاد المجتمع من الزراعة إلى الصناعة، ولا يجد رجال الأعمال المشتغلين بالصناعة والتجارة ما يرغمهم على الإستمرار فى الخضوع لملاك الأراضى الذين يعيشون على الريع الذى تنتجه إقطاعياتهم المتوارثه.

كذلك كانت نهاية العبودية، والتحول من عشائر إلى قبائل إلى دوَل. وكذلك كانت نهاية الإستعمار، وتفكك الإمبراطوريات، وإنكماش الأمية، وإرتفاع مستوى المعيشة، وإنخفاض مستوى العنف … كل هذه التطورات كانت حتمية. قد تتقدم أو تتأخر عقوداً أو حتى قروناً، لكنها حادثة لا محالة.

أوردت فى الحلقة ١٥ نبذة عن علم الديناميكا الحرارية، وشرحت أنه يستنبط القوانين العامة التى تحكم المنظومة بدون أن يهتم بتصرفات مكوناتها كل على حِده. (هناك علوم أخرى، مثل الفيزيقا الجزيئية، تنشغل بذلك.) بالمثل هناك نوعان من التاريخ – نوع يهتم بالأحداث وتفاعلاتها وتداعياتها، ونوع آخر يهتم بتطور المجتمع البشرى على المدى الطويل. وهذا النوع الثانى هو ما إلتزمت به فى هذه الجولة فى تاريخ البشرية.

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

Exit mobile version