مفكرون

حامد عبدالصمد | النهارده المطاعم والمقاهي فتحت لأول مرة في برلين بعد حوالي شهرين من الحجر. ذهبت

حامد عبدالصمد

النهارده المطاعم والمقاهي فتحت لأول مرة في برلين بعد حوالي شهرين من الحجر. كنت للقاء صديق في حديقة أحد المقاهي وشفت الألمان قاعدين فرحانين وبيصوروا بعض كأن الجلوس في مقهى إنجاز كبير. فرحة الناس فكرتني بقصة قرتها زمان: كان فيه راجل متجوز وعنده ولد وبنت وساكن في شقة صغيرة وكان هاسس انه مخنوق من الزحمة والدوشة في البيت ومش لاقي للحياة طعم. راح لطبيب نفسي وقال له أنا مش مرتاح في حياتي وحاسس ان بيتي عامل زي السجن ، تنصحني أعمل ايه. الطبيب قال له انت أمك لسه عايشة؟ قال له آه. قال له هاتها تسكن معاكم وانت ترتاح. قام صاحبنا جاب أمه وفضالها غرفة وقعد هو ومراته والأولاد في غرفة واحدة. بعد كام يوم راح للدكتور وقال له يا دكتور أنا اتخنقت أكتر وجنب دوشة العيال أمي ومراتي بيتخانقوا طول اليوم ، أعمل ايه؟ قال له ليك أخت؟ قال له آه. قال له هاتها هي كمان تسكن معاك. وفعلاً عمل كدا ، وكل أسبوع يروح يجيب خال من خيلانه. وفي يوم راح للدكتور قال له أنا خلاص مش قادر استحمل الخنقة والزحمة والدوشة والريحة الوحشة وطابور الحمام وبفكر في الانتحار. قال له خلاص روح خليجي أمك واختك وخيلانك يسيبوا البيت وتعالى لي بعد أسبوع. بعد أسبوع رجع له الراجل مبتسم وفرحان وقال له أشكرك يا دكتور .. انت غيرت حياتي .. فعلاً بعد قرايبي وأمي ما سابوا البيت حسيت ان البيت وسع والخنقة راحت واستمتعت بالهدوء لأول مرة في حياتي ، وأنت سعيد جداً وأنا قاعد في الحمام من غير ما حد يخبط عليا …
دا يوريك ان عدم الشعور بالرضا شيء نسبي ، وإن الناس ممكن توهم نفسها بالألم زي ما ممكن كمان توهم نفسها بالراحة حسب هم بيقارنوا حالهم بإيه. بس دي خدعة كبيرة. لأن افتقادك لأشياء كانت دايماً موجودة حواليك لمجرد انها اختفت فجأة مش معناه انك أخيرا عرفت قيمتها وإنك من هنا ورايح هتستمتع بيها على طول. اللي حصل ببساطة هو انك ربطت قيمة الشيء بغيابه وبخوفك من فقدانه ودا خطأ فادح. وحين تفرح بنفس الشيء حين يعود لمجرد أنه كان بعيد فأنت تعطي قيمة للبعد أكثر ما تعطي للقرب …
نفس الشيء ينطبق على العلاقات والحب. فيه ناس تقول لك التقل صنعة أو ابعد حبة تزداد محبة ، لأنك لما بتقرب من حبيبتك ممكن تشوف فيها عيوب ، ولما تبعد عنها تشتاق لها أكتر وهي تشتاق لك أكتر. دا حب الفجوات مش حب الحبيب. لأنك حينها لا تحب ما تعرف ، لكنك تحب ما يخفى عليك ، فتملأ الفجوات بخيالاتك وتحب وهماً. اللي بيحب حد عشان صفات أو مميزات ، ممكن يكرهه عند غياب هذه الصفات والمميزات. لكن اللي بيحب جوهر إنسان ما بيفرقش بين مميزات وعيوب وبيحب يكون دايماً قريب من اللي بيحبه في فرحه وفي كربه ، وبيعتبر رؤيته لعيوب وجروح اللي بيحبه نعمة مش نقمة .. نفس الشيء ينطبق على الرضا. اللي بيرضى عشان فيه أشياء وشروط معينة في حياته متوفرين ، بيصاب بالتعاسة عند غياب هذه الأشياء. لكن اللي بيخلي الرضا موقف ثابت من الحياة لا يصاب بالتعاسة حتى في أتعس الظروف! الحب والرضا مش مجرد شعورين. هما حالة وجودية كاملة نابعة من موقفك من نفسك قبل موقفك من الحياة والأشياء والظروف!

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى