توعية وتثقيف

الدراسة فى الإتحاد السوڤييتى – ١٣…


الدراسة فى الإتحاد السوڤييتى – ١٣

تحدثت فى تعليق سابق (١١) عن الجِدة الروسية (البابوشكا.) أما الجِدّ الروسي فهو قصة أخرى – لم يكن من أولئك كثيرون على قيد الحياة فى النصف الثانى من القرن العشرين بعد أن تعرضت روسيا إلى سلسلة من اللطمات كان من شأنها أن تقصم ظهر أي مجتمع. أقسى تلك اللطمات كانت الحرب العظمى، و هي حرب أُجبِر الروس على خوضها ضد عدو شرس كان قد أخضع أوربا بأكملها تحت حذائه و جنّدَها لخدمة مجهوده الحربي (*). لكن كانت هناك لطمات أخرى مؤلمة – بعد إنتصار البلاشفة فى حرب أهلية ضروس، هاجر من البلاد معظم من كانت لديهم كفاءات. تلَى ذلك سوء إدارة أدى إلى مجاعات و عصيان و قمع راحت ضحيته الملايين. زد عليه الحصار المُحكم حول الدولة الجديدة، و سباق التسلح، … و سترى خليطاً من العوامل كفيلاً بأن يستنزف أي شعب.

كان الجِدّ الروسي قد تعب من الدنيا بعد كل تلك البلاوى، و صار لا يريد من الحياة شيئاً سوى التجمع مع أقرانه فى فناء البيت (**) للدردشة و لعب الدومينو و إقتسام زجاجة من الڤودكا يتفننون فى إخفائها عن أعين البابوشكات اليقظة.

لا يمكن الحديث عن روسيا بدون الحديث عن الڤودكا، فهي سلوى الروس و لعنتهم منذ الأزل. جرعة من الڤودكا مع وجبة دسمة أو فى مناسبة إجتماعية هي متعة لا شك فيها، كما أن لها مزايا لا تُنكر – فهي تفتح الشهية و تدفئ الجسم و تطهر الفم و تكسر الثلج فى العلاقات الشخصية، و تعطى الشخص المنطوي الجرأة على الإفصاح عن مشاعره. لكن المزيد منها يهدم كل ذلك و يحولها إلى لعنة و بلاء –

ليس كل من يشرب الڤودكا يدمنها، (فالإدمان ينتج عن قابلية طبيعية،) لكن سيئ الحظ الذى لديه تلك القابلية إذا بدأ بجرعة صغيرة لا يستطيع التوقف حتى تخلص الڤودكا أو تكون كل الدكاكين قد أغلقت أبوابها. و كثيراً ما كان ينتهى الأمر بالمسكين مرتمياً على الرصيف فاقد الوعي حتى تلتقطه سيارة مثل سيارات الإسعاف كانت مهمتها جمع أولئك و نقلهم إلى مؤسسات خاصة تأويهم حتى يفيقوا.

مشكلة السكْر و الإدمان ليست مقصورة على الروس، بل هي شائعة بين شعوب الشمال عموماً. و فى فنلندا المجاورة إضطرت الحكومة إلى فرض ما يسمى ب “القانون الجاف” و هو عبارة عن مجموعة إجراءات جعلت الحصول على المشروبات الكحولية شبه مستحيل. لذلك كثيراً ما كانت تجئ إلى ليننجراد أفواج من السياح الفنلنديين ليأخذوا راحهتم فى شرب الڤودكا بلا قيود (***).

كان ثمن زجاجة الڤودكا النصف لتر ٣ روبلات، و هذا ثمن رخيص بالنسبة للفنلنديين و غيرهم من الأجانب. أما بالنسبة للمواطن الروسي فهو لم يكن رخيصاً، (مرتب المهندس أو الطبيب كان ما بين ١٠٠ و ١٥٠ روبل فى الشهر، و مرتب العامل كان أقل من ذلك.) كان بالقرب من بيتنا مصنع صغير. و عندما كنا نرى جمهرة من النساء عند بوابة الخروج، كنا نعرف أن ذلك كان يوم قبض المرتبات. فأولئك النساء كن ينتظرن أزواجهن على البوابة لقطع الطريق عليهم قبل أن يصلوا إلى دكان تباع فيه الڤودكا.

فى الغرب تعتبر الڤودكا مشروباً راقياً يفضله ذوو الأذواق المرهفة. و يتعاطونها هنا بطريقتين – إما وحدها أو فى صورة كوكتيل. لوحدها لا تزيد الجرعة فى العادة عن ٢٥ جرام، و لا تُقدَّم على مكعبات من الثلج مثل الويسكى، بل مثلجة فى قارورة صغيرة (****). أما فى حالة الكوكتيل، فهم يخلطونها بمشروب غير كحولي. كوكتيل الڤودكا مع عصير الطماطم إكتسب تسمية “مارى الدموية (bloody Mary)” (§). و الكوكتيل الآخر الشائع هو خليط من الڤودكا و عصير البرتقال. لكن أغلب الرجال الروس كانوا يزدرون فكرة الكوكتيل و يعتبرونه مشروباً لا يليق إلا بالنساء و الأجانب.

لم تكن البنات الروسيات يملن إلى شرب الڤودكا، بل يفضلن الشمپانيا. و إحقاقاً للحق كانت الشمپانيا السوڤييتية أفضل من نظيرتها الفرنسية. لكن لم يكن الإتحاد السوڤييتى قادراًً على تصديرها لأن هناك قوانين دولية تحظر إستعمال تسمية ‘شمپانيا’ لأي مشروب ينتج خارج مقاطعة Champagne الفرنسية. داخلياً لم يكن الإتحاد السوڤييتى يلتزم بتلك القوانين و لا بالحقوق الرأسمالية الأخرى مثل براءات الإخترع و حقوق الطبع … إلخ.

فى الجمهوريات الأخرى لم تكن الڤودكا مشروباً شائعاً – فى چورچيا كانوا يفضلون النبيذ (§§)، و كان كل بيت تقريباً يصنع نبيذاً من نوع غير معتق يشبه البوچوليه الفرنسي. و كان الرحالة فى جبال القوقاز يستطيع أن يتوقف فى أي بيت و يشترى كأساً من النبيذ، يشربه تحت التكعيبة فى جو پاستورالي خلاب. أما فى أرمينيا فكانوا (و ما زالوا) يتقنون إنتاج الكونياك.

كثير من الزملاء المصريين فى ليننجراد كانوا أحياناً يشربون الڤودكا فى المناسبات الإجتماعية مثلهم مثل غيرهم ، لكنى عرفت إثنين منهم كانت لديهم معها مشاكل. (إذا بدأ أحدهما بكأس صغيرة لا يستطيع التوقف.) أحدهما كان يصبح عنيفاً بعد الشرب – لم يكن يعتدى على أحد، لكنه كان يكسر الأبواب و الأثاث فى بيت الطلبة. و فى الصباح يصبح فى وداعة الملائكة، و يذهب إلى مديرة البيت ليعتذر و يدفع ثمن ما أتلفه. فيما عدا ذلك كان من أظرف الشخصيات وكان الكل يحبونه و يغفرون له تلك التجاوزات.
____________________________
*) كانت الجيوش النازية تضم فرقاً بأكملها من الإيطاليين و المجريين و الأوكرانيين و الكروات و غيرهم. و أحياناً كان أولئك يقومون بالأعمال التى يأنف الألمان أنفسهم من أدائها.
**) ‘البيت (dom)’ فى ليننجراد كان مبنى كبير به مئات من الشقق يشغل بلوكاً بأكمله و فى وسطه فناء.
***) كانت المسافة بين هلسنكى و ليننجراد تستغرق ٣ ساعات بالقطار أو بالسيارة.
****) إذا وضعتَ زجاجة الڤودكا فى الفريزر (freezer) فهي لا تتجمد، بل تزيد لزوجتها (viscosity) و تصبح مثل الزيت. و هذه طريقة لشرب الڤودكا لا يعرفها إلا الخبراء.
§) ربما إشارة إلى مارى إبنة هنرى الثامن من زوجته الأولى كاثرين الأراجونية. و كانت الملكة مارى تلك دموية بالفعل.
§§) الڤودكا تنتج عن تخمير الشعير، أما النبيذ فينتج عن تخمير عصير العنب.

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

Farid Matta فريد متا

كاتب ادبي

‫9 تعليقات

  1. سلعه خاصه دون شك

    كانت من مقومات الاحتمال اثناء فترات الشتاء في اعقاب الغزو الالماني
    مع نوعيات السلاح
    و الملابس

    و كانت السلعه الوحيده التي استمر دعمها في دوله يلتسين

    و الان ساعه تلعب دورا تفضيليا في سوق العمل
    حيث يفضل صاخب البيزنيس الزوسي تشغيل الاقليات التي لا تستهلكها في مقابل الاغلبيه التي تستهلكها ان اتيح له اختيار

    العلاقه بين مكونات الامبراطوريه الروسيه القديمه
    استونيا
    و ليتوانيا
    و لاتفيا
    و بولاندا
    و فنلانده
    و مكونات الاتحاد السوفييتي
    كل جمهورياته السابقه باستثناء الاتحاد الروسي
    و حتي مكونات الاتحاد الروسي نفسه
    ظاهره تاريخيه فريده

    و دائما كان التوجه الغربي ايا كان مركزه في اعتبار ان مكونات الامبراطوريه و مكونات الاتحاد السوفييتي و مكونات الاتحاد الروسي اكبر من ان تشملها تكوين سياسي واحد

    و نجحوا فعلا في تفكيك الامبراطوريه اثناء الحرب العالميه الاولي

    و تفكيك الاتحاد السوفييتي من داخله في اواخر الثمانينات و اوائل التسعينات

    و الان تجري محاوله التفكيك الثالثه باستخدام حروب مع مكونات الاتحاد السوفييتي السابق

    العلاقه فعلا غير نمطيه بين كل تلك المكونات و المركز الزوسي
    و فيها الجوانب الرسميه و التاريخيه
    و الجوانب العمليه مما ذكرتم عن اسباب تردد بعض الفنلنديين علي الاتحاد السوفييتي حتي اثناء وجود الدوله التي كانت لا تزال امتدادا للدوله الستالينيه .

  2. مش ممكن .عثرنا على كنز من المعلومات الشيقة معروضة بأسلوب رشيق .سرد رائع لتجربة حياتية عريضة وثرية ، مع مراعاة أن بعض المصريين لا يعرفوا الفروق بين أنواع المشروبات الكحولية ، فكان هناك نبذة مختصرة عن معظم الأنواع .أنا سعيد عندما طلبت منك الكتابة عن دراستك فى الإتحاد السوڤيتى منذ أول مقال كتبته عن مدرسة المتفوقين بالمعادى ، إستشعرت أننى أمام كنز من المعلومات المتدفقة والراقية .بقى لى سؤال ، بعد كل هذه السنين الطوال ( ونحن دفعة ثانوية عامة ١٩٥٨ ) وبعد مراجعة الأحداث وأنتم بالإتحاد السوڤيتى ، هل شعرتم أنكم كنتم مراقبون بطريق خفى من مخابرات ( الدولة الجارة ) .لأنى بعد هذه السن لا أتصور أن هذا لم يحدث و أنكم كنتم تحت أعينهم ليل نهار .ربما قرأت عن أول شحنة من صفقة الأسلحة ( التشيكية ) ( الروسية طبعا ) .عندما كان المصريون يفرغون شحنة الأسلحة كان هناك فى بطن السفينة ضابط من ( المو. ساد ) يحصى كل قطعة سلاح ، وتم القبض عليه . إذا كنت تستشعر أى حرج ، فأنت فى حل وأنا أقدر ذلك .

  3. وصف حضرتك للأماكن و الأحداث سلس و شيق جدا كما تابعت فى سلسلة ذكرياتك و حضرتك فكرتنى بصديق لى و زميلى من ثانوى هو الدكتور عادل زكى روفائيل كان يدرس هندسة بترول و حصل على الدكتوراة من روسيا و ربما كان فى نفس فترة وجودك بروسيا و كان دائما ما يحكى لنا عن ذكرياته هناك و لكن ليس بنفس السرد الجميل لسيادتك. تحياتى و تقديرى لحضرتك

  4. رائع دكتور فريد .. سرد جميل وذكريات شجية … ممكن استفسار عن (فالإدمان ينتج عن قابلية طبيعية،)… يعنى اية قابلية طبيعية .. وهل هذا ينطبق علي ادمان المخدرات او السجائر

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى