كتّاب

أغانى السفر والغربة والحنين فى التراث الغنائى المصرى…


أغانى السفر والغربة والحنين فى التراث الغنائى المصرى
كان ارتباط المصرى بأرضه فى بلاد تعتمد على النيل والزراعة كمصدر وحيد للعيش، مضربا للأمثال منذ أقدم العصور، فحياة المصرى كلها مهما عاش وعمر يقضيها بين مكانين لا ثالث لهما: داره وأرضه أو حقله، ولذلك قال المثل العامى “من كان غيطه على باب داره هنياله”، وبعيدا عن حقله وداره لا يبعد إلا لحظات خاطفة، فى مجاملة عرس أو عيادة مريض أو عزاء قريب أو دفن عزيز أو مشوار صغير لسوق القرية مرة كل أسبوع.
وتكفل النيل والزرع بقضاء جميع حوائجه ومتطلبات حياته، فهو يجمع طمى النيل الذى يترسب عاما بعد عام ليصنع منه الطوب اللبن الذى يبنى به الدار والفرن والمصطبة والزرائب وعشش الدواجن، ومن أخشاب أشجاره يصنع الكنبة والدكة والطبلية والنورج والساقية ويعرش سقوف الدار بالبوص والغاب، وعلى خيرات حقله يربى الدواجن والحيوانات، ويدخر من القمح والذره خبزه طول العام، وفى قريته يحب ويتزوج ويربى أطفاله ويعلمهم ويعيش أوقات سعادته وسمره ويكبر ويموت ويدفن، ولذلك كان الوطن فى المفهوم القديم لا يتجاز الدار أو القرية ولذلك قيل فى المثل القديم: “حداية من الغرب جاية تطرد أهل الوطن” يقصد الدار والقرية، وسار هذا التعبير اللطيف عن أهلنا البسطاء: انهم إذا سافروا من الباجور لمنوف فإنهم يحلفون بغربتهم، ولقد أدركت وأنا فى طفولتى بعضا من هذا العالم، فعندما نجح أخى الكبير والعظيم صلاح فى الشهادة الثانوية أواخر الخمسينيات وتقرر سفره إلى القاهرة لدخول الجامعة عصبت أمى وستى رأسيهما وارتدتا السواد وراحت تبكيان وتعددان قبلها بأسبوع، وجاءت البلد كلها والعائلة لتوديع ذلك الفتى الذى سيترك وطنه ويتغرب حتى وإن كانت الغربة على مبعدة ستين كيلومتر من الباجور إلى القاهرة.
وحتى الرثاء الشعبى (العديد) فقد اهتم بالغريب اهتماما خاصا يقول:
ودا قبر مين اللى البقر هده … قبر الغريب اللى ترك أرضه
ودا قبر مين اللى البقر داسه … قبر الغريب اللى هجر ناسه
ولذلك فقد حفرت الغربة جراحا عميقة فى وعى المصريين ووجدانهم ولذلك جاء التعبير عنها شجيا وحزينا وجميلا فى نفس الوقت، ومن هنا كانت أغنيات الغربة من أجمل وأرق الأغنيات وأكثرها إثارة للشجن وتقليبا للمواجع، وتكثر فيها بطبيعة الحال مفردات مؤسال وجوابات ودموع ومناديل، وسنبدأ كالعادة بسيد درويش، الذى هاله خطف السلطات الإنجليزية للفلاحين المصريين أثناء الحرب العالمية الأولى وإرسالهم لميادين القتال خارج البلاد فغنى: “ياعزيز عينى/ أنا بدى أروًح بلدى/ بلدى يابلدى والسلطة خدت ولدى”، ولذلك لم يفته الابتهاج بعودة هؤلاء الذين تغربوا لسنوات فغنى من كلمات بديع خيرى: “سالمة يا سلامة رحنا وجينا بالسلامة/ وقف يا وابور واربط عندك/ نزلنى فى البلد دى/ بلا أميركا بلا أوربا مافيش أحسن من بلدى”. أما أم كلثوم فتغنى لرامى والسنباطى: “على بلد المحبوب ودينى زاد وجدى والبعد كاوينى/ يا مسافر على بحر النيل/ أنا ليا فى مصر خليل/ من حبه مابنام الليل/ على بلد المحبوب ودينى”، ومن المعروف أن سكان الأقاليم يقولوا مصر وهم يقصدون “القاهرة”.
أما إذا انتقلنا إلى العبقرى محمد عبد الوهاب، فسنجده غنى كثيرا عن الغربة والاغتراب: فهو يغنى للحبيب الذى سافر وحده وتركه وحيدا أيضا “يامسافر وحدك” من كلمات حسين السيد ولحنه أى عبد الوهاب إذ لم يلحن له أحد غيره، فيقزل للحبيب: “خايف للغربة تحلى لك والبعد يغير أحوالك/ خلينى دايما على بالك.. مهما كان بعدك حيطول أنا قلبى عمره مايتحول/ حفتكرك أكتر م الأول” ويغنى لأمين عزت الهجين”ليلة الوداع”: “الطير راح أشرح له غرامى/ واقوله أبكى و واسينى و حمل النسمة سلامى و سمع البدر أنينى/ و حاسهر الليل و تنامى و قال لى قلبى إيه الخبر قلت الحبايب هجرونى” ويغنى لمحمد عبد المنعم “لما انت ناوى تغيب على طول”،: ” أشوف خيالك فى الوحدة جه قدامى/ أكلمك وأسمع حسك وأشكى غرامى/ واقوم أضمك مالقاش غير أوهامى”، كما غنى “حب الوطن فرض عليا” لأمين عزت: “ليه بس ناح البلبل ليه فكرنى بالوطن الغالى/ قضيت أعز شبابى فيه وفيه حبايبى وعًذالى/ وإن شاف هوان ولا أسيهة أفديه بروحى وعنية.. يا مصر أنا رضعت هواكى من الصبا وجرى فى دمى/ أحب نيلك وسماكى انت أبويا إنت امى/ أرواحنا وشبابنا فداكى وفداكى روحى وعنية”، ويقول المايسترو “سليم سحاب” أنه عندما كانت فرقته القومية تغنى تلك الأغنية للمغتربين المصريين فى كندا كان صوت الصراخ والبكاء يغطى على كل شئ.
وهناك لعبده السروجى وهو مغنى مًقل أغنية يحبها جميع المصريين وهى أغنية “غريب الدار” كلمات على الشيرازى ولحن محمد قاسم وتقول: “غريب الدار عليا جار زمانى القاسى وظلمنى/ مشيت سواح مسا وصباح أدور ع اللى راح منى/ أنا اللى الدهر عادانى وباعنى واشترى فيا/ وخد أحبابى وادانى بدلهم فكر وأسية/ ومين شالف اللى انا شفته ومين قاسى اللى قاسيته/ وفيت بالعد وحفظته وغيرى خان وحبيته/ سافرت بلاد وفت بلاد ومين ع الشوق يصبرنى”
ولسعاد محمد أغنية رائعة من كلمات مأمون الشناوى ولحن محمود الشريف وتقول: “هاتوا الورق والقلم ياللى وحشتونا/ يشكى مرار الألم من يوم مافتونا/ أحبابى من بعدكم النوح ودمع العين/ وسألت عن قربكم إزاى وإمتى وفين؟/ قالوا التلاقى قسم وياخوفى تنسونى/
أما فريد الأطرش فيغنى من كلمات مأمون الشناوى “سافر مع السلامة” وتقول: ياخوفى بعده ليطول وقلبو عنى يتحول/ مين ليا بعده لو ينسى عهده ويزيد فى بعده/ ياطول عذابى وأسايا من لوعة البعد الغادر/ من بعد ما كان ويايا فرقنا بحر مالوش آخر/ أشتاق إليك وانت معايا ياسر فرحى وهنايا”.
ولمحمد قنديل أغنية رائعة غناها فى فيلم “صراع فى النيل” وهى من كلمات مرسى جميل عزيز ولحن الموجى “يامهون” ويا مهون هو دعاء لله “سبحانه وتعالى فهو الذى يهون كل صعب وعسير، وتقول: يامهوًن هون هون يامهون هونها وقول يامهون هون على طول/ وتروًح بلدك ياغريب وتلاقى ع الشط حبيب مستنى يقولك سلامات هوًن/ يا مسافر بين ضلمة ونور يا مبحر ومعدى بحور/ خد بالك الأيام بتدور/ وتروًح بلدك ياغريب وتلاقى ع الشط حبيب مستنى يقولك سلامات هوًن”
أما نجاة الصغيرة فقد تألقت فى الغناء للغربة، ففى أغنيتها “الطير المسافر” لمحمد حمزة وبليغ حمدى تقول: “وبعتنا مع الطير المسافر جواب، وعتاب وتراب من أرض أجدادى وزهرة م الوادى/ يمكن يفتكر اللى هاجر أن له ف بلاده أحباب/ زهرة قلوبنا دبلت ودوبنا من غير حبيبنا يرويها إيه؟/ حبايبنا عاملين ايه فى الغربة أخباركم إيه؟/ مرتاحين ولا تعبانين، فرحانين ولا زعلانين، مشتاقين ليكم مشتاقين، من عيونكم محرومين”. وفى أغنية “على طرف جناحك يا حمام” من كلمات الأبنودى ومن الروائع القليلة التى لحنها لها اخيها: عز الدين حسنى، تقول: ” على طرف جناحك ياحمام حربط لك مكتوبى/ واملاه أشواقى وسلامى وصلها لمحبوبى/ واحلف له يمين بعيني الاتنين قلبى اشتاق له وبينده له/ من بعده أنا عايشة لأحلامي وحنيني لحبيبي/ أنا لاحنام ولا نوم حيجينى طول ماهو غايب كده عن عينى”
أما إذا انتقلنا لشادية فقد غنت “قطر الفراق” من كلمات محمد حمزة ولحن بليغ وتقول: “على فين على فين ماتقولو رايحين على فين؟/ ناويين خلاص ع السفر ماتقولو رايحين فين/ رايحين تغيبو سنة ولا تغيبو اتنين/ فاضل دقيقة زمن وبعدها ماشيين ياريت ياقطر الفراق يأخروك ساعتين” كما غنت من كلمات مجدى نجيب ولحن بليغ تلك التيمة التى غناها المصريين لابطالهم الوردانى وسعد زغلول، “قولو لعين الشمس”: “قولو لعين الشمس ما تحماشى أحسن حبيب القلب صابح ماشى/ ياحمام طير قبله قوام ياحمام/ خليله يا حمام الشمس حرير ياحمام/ دى الآه بقولها وهو مايدراشى/ وف بعده طعم الدنيا ميحلاشى”
ويغنى محمد رشدى “متى أشوفك” لمحمد حمزة وبليغ: “متى اشوفك ياغايب عن عينى قتاله الفرقة والله وبعادك عن عينى/ ابعت مراسيل شايلالك شوق مننا يا جميل/ وبلون الحب رسمنا قلوب فوق المناديل/ وحكينا قصصنا واحوالنا/ قلنالك ايه اللى جرالنا/ قلنالك ياما ولا قلتش متى حتجينا مابتردش”
ولعليا التونسية أغنية محبوبة ومشهورة من كلمات محسن الخياط ولحن حلمى بكر “ع اللى جرى” وتقول: ع اللى جرى من مراسيلك بس اما تيجى وانا احكيلك/ وامسح دموعى ف منديلك/ ياليلى آه يا جرحى آه ياحبى آه/ الحب دوبنا تهنا وتوهنا وتاهت المراسيل بين النهار والليل/ مفضلش غير دمعة مرسومة فى المناديل”
وللشيخ إمام إهزوجة كتبها نجم عندما حال السجن بينه وبين الشيخ إمام، تقول: “يا حبايبنا فين وحشتونا/ لسة فاكرينا ولا نسيتونا/ داحنا فى الغربة م الهوى دوبنا/ وانتو بالغربة جوه فى قولوبنا/ اوعوا تفتكروا اننا تبنا مهما فرقونا ولا بعدونا يا حبايبنا”
ونختتم تلك الباقة المختارة برائعة الفنانة الراحلة “ذكرى” وحياتى عندك، كلمات وليد رزيقة ولحن الشرنوبى، وتقول: “وحياتى عندك لو كان ليا عندك خاطر/ لتراجع قلبك قبل ماييجى يوم وتسافر/ وان كان بعدك شئ متقدر خدنى معاك/ خدنى معاك من غير ماتفكر/ دا انا مش ممكن أبدا أقدر ع الأشواق يوم لما تسافر”
يسعد أوقاتكم

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى