كتّاب

مغالطات تاريخية (4-3):…


مغالطات تاريخية (4-3):
لم تبن الأهرام بالسُخرة
أنا عارف إنى طولت عليكم فى قضية الأهرام والسخرة، وهذه هى المقالة الأخيرة قبل أن ننتقل لموضوع جديد
وما أود أن ألفت النظر إليه فى البداية هو أنه لا ينبغي مناقشة قضايا التاريخ بروح سجالية، كونت وجهة نظرها الآن فى ضوء ظروفنا الراهنة وتزور التاريخ لمجر اثبات صدق وجهة النظر التى كونتها مسبقا، وثانيا: لا ينبغى إسقاط مفاهيمنا المعاصرة على قضايا التاريخ وأحداثه وشخوصة والحكم عليها بمعايير العصر، وأخيرا لا ينبغي انتزاع أحداث التاريخ وأفكاره من سياقها ومن عصرها، وأنما ينبغى مناقشتها فى ضوء الملابسات والديناميات التى انتجتها من ناحية، وفى ضوء عصرها والحضارات المعاصرة لها من ناحية آخرى
وعلى هذا الأساس قلنا فى المقال السابق أن أول شروط السُخرة لا تتسق مع عملية المساهمة فى بناء الأهرام إذ لا يترتب عليها “قيمة مضافة” يستولى عليها صاحب الهرم، ومن ناحية ثانية كانت عملية بناء الهرم تتسق وتقيم فكرة “الماعت” والتى يتربع فيها الفرعون ومقبرته والعقيدة التى تتمحور حولها العملية كلها، والشكل الهرمى الذى يشبه التل الأزلي، والماعت هنا تلخص انتظام الكون كله من دوران الشمس وفيضان النهر حتى النهى عن التخمة عند تناول الطعام أو النهى عن السكر عند تناول الجعة، ولم يكن الملك هنا مفروضا على الناس بقوة عسكرة كأباطرة الرومان مثلا، ومن هنا اعتبر الاشترك فى عملية بناء الهرم واجبا دينيا
ولم تكن الخدمة العامة بالأمر الجديد ولا الغريب والذى يجبر الفلاحين عليه، إذ يقول المثل العامى: “العونة يا رجاله، قال من كل بيت راجل” والعونة هنا المقصود بها تعلية جوانب النيل وتمتينها، ففى أيام الفيضان العالى كان شيوخ القري يأخذون شابا من كل دار ليتقدموا نحو شاطئ النهر ليرفعوا جسوره لأن خروج المياة عن ضفاف النهر فى غير القنوات المخصصة، يهدد القري والبيوت والحيوانات والدواجن بالغرق، وهو الأمر الذى لم يكن بأقل خطر من الجفاف
ومن ناحية ثانية كان هذا الواجب الدينى يتسق مع الطبيعة الوطنية للنهر والأرض والزراعة، ففى مثل هذه الأيام ونحن الآن فى شهر “بشنس” الفرعونى والذى يقول مثله القديم: “بشنس يكنس الغيط كنس” يعنى يكون قد تم حصاد القمح والشعير والبرسيم ومختلف الحوليات الشتوية، وتصبح الأرض عارية تمام، ويتوقف الفلاحين عن العمل فى الشهور بشنس وبؤونة وأبيب ومسرى، وفى آخر مسري يفيض النيل ويعود الفلاحين للعمل فى حقولهم،
وكان للعمال فى الهرم وظائف، نفر، ملاحظ، مهنى،رئيس عمال وغيرها، وكان للعمال وجبات معتبرة تضم لحوما وخبزا وخضراوات وجعة، فضلا عن وجود عيادات لتضميد الجراح وجبر الكسور، وكانوا يعفون من الضرائب، ويحصلون على بعض المكافآت العينية وهم يعودون إلى قراهم إذ لم تكن النقود قد عرفت بعد
وأخيرا كان من يموت منهم فى موقع العمل يدفن مكرما معتبرا فى مقبرتين كبيرتين الأولى بنيت من نفس أحجار الهرم،ومكانها غرب الهرم الأكبر، والثانية إلى اليمين من قدم أبو الهول، بالقرب من مقابر أهلى نزلة السمان
أنا آسف طولت عليكم …. ويسعد أوقاتكم

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى